• 21 كانون أول 2022
  • حارات مقدسية

 

 

 بقلم : الباحث الشيخ مازن اهرام 

 

في ازقة البلدة القديمة ذاكرة مقدسية وارتقاء الى قمم الخيال المدهش عبق التاريخ وروح التراث المقدسي  يتجليان بعنفوان مدينة القدس البلدة العتيقة, متحف جسد وجود الحياة المقدسية داخل اسواق البلدة القديمة الأصالة للإنسان المقدسي  القادر على الصمود والعطاء في اثبات الذات والوجود رغم الهجوم الشرس المضاد الذي يستهدف تراث وحضارة الفلسطيني القريبة والبعيدة في هذه الديار  بيوتها حارتها حضارة عظيمة كُتبت على صفحات التاريخ حكايا، ونُقشت أمجاد الأبطال ’وفي جذور التاريخ سطر أهلها و سكانها وبيوتها أسوارها مساجدها كنائسها قداستها ’المهن المتوارثة كابراً عن كابر منها ما زالت ومنها ذكرى ناقوس يدق فى عالم النسيان تمر السنين والاعوام ويمضي بنا الزمان دون ان ندري تدق اجراس الوداع فنمضي تاركين خلفنا لحظات جميله تبقى ذكرى تُكتب على سطور النسيان تأتي لحظات الذكريات والحنين فجأة دون سابق إنذار..

 يسبح الإنسان في مواقف الطفولة ورأسه ينظر للأعلى بابتسامة صادقة وعيناه تغرغران بدمعٍ خفيف إن تلك الذكريات العابرة ماهي إلا جزء من الماضي الذي لا يمكن أن يعود يوماً’ ذكريات مع أشخاص قد يكون فرّقهم الموت أو فرقتهم الدنيا بأسبابها وظروفها الصعبة دائماً تكون أجمل الذكريات هي ذكريات الطفولة التي كانت تجمع بين سخرية الحياة من عقولنا الصغيرة وبين أحلامنا العريضة دائماً تعود بك الى حيث البراءة والى حيث الجمال في صفاءِ نفوس الأطفال وأكبر همومهم البسيطة ’هنا في هذا الزقاق كانت معصرة  وعبر الطريق الممتد فوقه قناطر ينبعث من فوهاتها ضوء الشمس جزار ينتظر الزبون القادم يُقابله بائع الخضار وقد ادهش المارة بطريقة عرضه  للفاكهة  والخضروات  وفي طريق الواد طاحونة قمح وبباب خان الزيت مصبنة وعلى حافة الطريق فرن  تنبعث منه رائحة الخبز الطازج وما ان تحظى برغيف  الخبز  يستقبلك الحاج عطا الهدمي بقطعة جُبن بلدي المطعمة بحبة البركة تقف امام حانوته وخلفه برميل خشبي  مليئ بخلاصة اللبن والحويرنه يمزجه ويخفقه بملعقة خشبية كبيرة شكلها النمطي هو الذراع الطويل وقد صُفت على  الرف قوارير اللبن الفخارية( بقلول اللبن)من حليب النعاج ,وعلى بعد خطوات  يشدك شذى رائحة القهوة تنبعث من حانوت الحاج ازحيمان صاحب هذا العشق لحبات البن الممزوج بحبات الهيل وهو يحمص  حبات القهوة  على مرجل من الفحم 

بجواره سبيل عثماني لم تتدفق مياهه أصبح خاوياً لا يروي العطشى لوحة فسيفسائية كل يتبادل التحايا والابتسامات

 لنكمل مسيرنا على مقربة من  المسجد  الذي يؤمه  أصحاب الحوانيت والحرف  الداخل  من باب العامود على يساره  يلج إلى عقبة الشيخ بدر الدين لؤلؤ عدة خطوات  نجد  أطمه (تلة) خلت من عُمارها  وأضحت أثراً بعد عين  مُقابل الدرب المؤدي  إلى  عقبة الملوية , هذا الأثر كان  فاخورة  تُصنع فيه  الأواني الفخارية  وتُهذب .

وعلى مقربة من مغارة السلطان ابن الأدهم بجوار مسجد الأدهمي من خلال الشق القائم كان مؤذن المسجد الحاج يحي الدويك قد بسط بضاعته الفخارية من أوني وأباريق ومواعين وقوارير ومعاجن لسن لبن الجميد (الكِشك) لطبخ المناسب , وحصالة فخارية حاوية للقطع النقدية   لها ثقافة ورمزية خاصة بها، فالأشكال الأولى منها كانت كروية الشكل نسبة إلى نهد الآم كرمز للخير والعطاء 

وعلى مقربة من محطة الحافلات يرتاد على العم أبو الصادق الدويك الزبائن من كافة الأطياف لشراء الفخاريات بدراهم معدودة ومن باب المداعبة يوصي العم أبو الصادق قائلاً ضع في قعر الأبريق الفخار شلن أو بريزة فضة لصفاء الماء المبرد ويستطيب الماء الصافي الزلال 

وعلى مقربة من باب حطة في البلدة القديمة في بيت المقدس أبدعت عائلة العسلي المقدسية (آل ربيع) بصناعة قوارير فخارية تُستعمل مناحل لتربية النحل واستخراج العسل ولقد ظهرت وثيقة تاريخية لمخطوطات كانت تملكها عائلة العسلي في القدس في سنة ١٧٩١عُرفت عائلة العسلي في العصر المملوكي والعهد العثماني ثم أُطلق عليهم العسلي الفواخيري لامتلاكهم فواخير عسل في حارة باب حطة   كما تقلدوا وظيفة دزدارية قلعة القدس، والتي أصبح أبناؤها يعرفون بعائلة الدزدار المقدسية

حرفة الفخار في مدينة القدس قراها وريفها عندما نسترجع الذاكرة إلى الفاخورة التي امتهنت لسنوات طويلة توارثت بعض العائلات المقدسية في تشكيل تحف وخزفيات فخارية زاهية تبهر الناظرين إليها، فهي شاهدة على براعة ما ورثته من الآباء والأجداد منذ مئات الأعوام موهبة فريدة امتزجت بشغف الفن وحب الحياة فكانت تواظب في بيت المقدس والقرى المجاورة ممارسة تلك المهنة سادت ثم بادت

صناعة الفخار، والتي حافظ اهل بيت المقدس على مزاولتها منذ سنوات عديدة ومقاومة انقراضها، حيث يقضي الفاخوري ساعات طويلة لا تعرف الكلل والملل داخل فاخورته الطينية البدائية، والتي توقن من يدخلها لأول مرة ٖبأن الزمن توقف لمئات السنين بين زوايا وجدران تلك الرقعة الصغيرة المجسدة وشبابه وخريف عمره مثابراً على اعتلاء منصة الدولاب الدائري متحكماً بالعجينة لتصبح طيعة بين راحتيه المجهدتين وهو يديرها كيفما شاء وسط عملية سيطرة مذهلة للفه لها بأطراف أصابعه في كل اتجاه ٖ مستمداً حنكته في هذا الفن منذ طفولته

“الفواخيري” يشرح المراحل التي تتدرجها العجينة الفخارية قبل انتهائها بشكلها الأخير قائلاً:

” علينا الحرص في انتقاء نوعية الطين وغربلتها جيداً بالغرابيل الناعمة، ثم نقع الطينة في أحواض خاصة بها لثلاثة أو أربعة أيام، وبعدها نعجنها بأقدامنا لنحصل على العجينة المناسبة، وتقطيعها وتكويرها باليدين، فتسطيحها على سطح آلة المرجل وتدويرها بالرجل لنتمكن بعد ترطيبها بالمياه التحكم بأشكالها وتحويلها لصحون أو كؤوس أو جرار وغيرها من الفخاريات وأخيرا شوائها وتلوينها”.

 تحتاج هذه المهنة لروح إبداعية في العمل ورغبة في التشكيل والرسم والتزيين، كاحتياجها أيضاً لأدوات أساسية يصفها “الفواخيري” بأنها فنية جميلة   

لاحقاً تطورت تلك الحرفة وتم تزجيج الخزف وهي عبارة عن عملية إضافة كمية من المينا المزجج إلى الخزف وصهرها معه بحيث تتشكل طبقة لمّاعة على السطح تسهم في زخرفة وتزيين الخزف، بالإضافة إلى دورها في التدعيم والوقاية من الماء والزيوت والسمن  

ترجع صناعة الفخار لعصور ما قبل التاريخ إذ أن في العصر الحجري بدأت صناعة الفخار في الظهور فاستخدمها الأشخاص في صناعة أدوات المائدة لطهي الطعام أو تناوله، وكانت تتميز لديهم بحفظ الطعام أطول فترة ممكنة، فكان اليونانيون يصنعوها بكل دقة وبألوان مختلفة خاصة اللون الأحمر المتعارف عليه هو كان الأكثر انتشار حينها

وفي الخلافة الأموية (661 م- 750م) كانت الأكواب والأواني تصنع بمصر من البلور (زجاج) صخري الأزرق أو الأخضر عودة علي الفخار المصنوع في فلسطين سوريا وإيران والرافدين وكانت صناعة الفخار والخزف قد تأثرت بالصينيين منذ القرن التاسع م. وحتى القرن 15م. وفي القرن التاسع شجع العباسيون صناع الفخار والخزف على تقليد الصناعة الصينية بألوانها وأشكالها البارزة على السطح وانتقلت في القرن العاشر هذه الصناعة من الشام والعراق للأندلس ومنها الى اُوربه ولا سيما التزجيج بالقصدير. وبصفة عامة كان الفخار والخزف الإسلامي يصنعان في قوالب عادية أو منقوشة بالأشكال ومن بينها أنواع القيشاني (نسبة لبلدة كشأن بإيران) في المساجد أو تزين بها الحوائط كالفسيفساء الملونة والبيضاء. ومن خلال التقنية الإسلامية ظهرت صناعة القيشاني والسيراميك الإسلامي في إيطاليا بال قرن15 وانتشرت صناعته في أوروبا بالقرن حتى أواخر القرن فخار بوكورو: Bucchero نوع من الفخار الرمادي أو الأسود الجميل الصنع. وسطحه لامع أملس. وكان الاستركان ينحتونه ما بين القرنين الخامس والرابع ق.م.

ظل التطور مستمر حتى عهد الدولة العباسية الذين عرفوا بصناعتهم المميزة للفخار وكثرة استخدامهم للطين في صناعة الأواني والقطع المخصصة للطعام والمائدة، فكان جميع الدول والشعوب يقوموا بتجارة المواد المميزة المصنوعة لدى العرب في عهد الدولة العباسية والتي كانت قطع مميزة بالطابع الإسلامي.

وإلى الآن صناعة الفخار بارزة ومستمرة وقويه وذات طابع مميز وعتيق إذ إنها تزين البيوت والموائد وتحفظ الطعام والماء وتقدم في أفخم المطاعم حيث من ضمن التطورات الراهنة أن هناك بعض الأماكن والمطاعم لا تقدم أطباقها إلا في الفخار المحفور عليه أسمها، إذ أن صناعة الفخار صناعة هامة ومفيدة وقيمة وذات طابع حضاري لا مثيل له.  وصناعة الفخار من أقدم الحرف التي مارسها الإنسان منذ فجر التاريخ، تتمثل أهمية الفخار في أنه رابط وثيق بين الإنسان وأصله وتراثه وتاريخه يعتبر الفخار أحد المهن المميزة التي بها المزيد من الفن والحرفية. وتعتبر صناعة الفخار إرث عظيم للأجيال الجديدة فهم صناعة توجد من قبل الميلاد حتى الآن، محتفظة برونقها وقيمتها وتعد صناعة الفخار أحد مصادر الرزق لطبقة كبيرة من الحرفين والعاملين في هذا المجال والذين توارثوا المهن من أجدادهم وآبائهم. صناعة الفخار تحكي تراث، فهناك قطع قديمة تعتبر حضارة للبلدان التي قامت بتصنيعها خاصة في بلاد فلسطين والشام والعراق كما إنها صناعة متجددة تجمع بين الطراز القديم والفنون الحديثة، يمكن لأي شخص أن يبدع فيها ويتقنها ويخرجها في ثوب جديد مليء بالبهجة والابتكار عندما نستذكر تلك المهنة نذكر أهلها القائمين عليها ومنهم من تكنو بعائلة الفاخوري او الفواخيري 

 

المراجع

الحياة الثقافية في القدس 637م – 1948م

إصدارات هيئة أشراف بيت المقدس  

وثيقة آل العسلي