• 13 شباط 2024
  • حارات مقدسية

 

 

بقلـــم : الباحــث فـــوّاز إبـــراهيم نـــزار عطيـــة

 

 

آثــرت أن أخُط كلماتي في هذا المقال رغم الانقطاع الذي دام لعدة أشهر، بسبب ظروف الحرب على قطاع غزة وأهلها، الذي ليس له تفسيرا إلا بصورة الجلاء، أن الكره والعمى والحقد والغَّل مُبيت في صدور غالبية الجانب الإسرائيلي حكومة وشعبا منذ زمن طويل، وأصبحت تلك المفردات سيدة الموقف في طريقة الرد على هجمات الفصائل الفلسطينية في السابع من تشرين الأول لعام 2023، بحيث اُستغلت بصورة تفوق الخيال البشري، بل تفوق أصول وتوازن الرد، إن كان القانون الدولي يعطي لقوة الاحتلال حق الرد.

وبعيدا عن الأسباب والمُسببات التي أدت إلى وقوع احداث السابع من تشرين الأول من العام 2023، وبعيدا عن التحليلات والتفسيرات والتنبؤات التي ملئت شاشات التلفزة المحلية والعالمية، وبعيدا عن الخطط العسكرية وتصريحات زعماء الدول، وجدت من الأهمية بمكان أن أضع بين يدي القارئ، حقائق لا يعرفها إلا القليل ممن اطلع على وثائق رسمية، أنبأت عنها سجلات المحكمة الشرعية في القدس الشريف إبان عهد الإمبراطورية العثمانية، التي حكمت ثلثي العالم بمن فيهم البلاد العربية خلال القرون التي خلت.

وقد يسأل سائل وما علاقة تلك الوثائق والحجج، بما يدور من أحداث دامية في فلسطين، قُتل فيها الأطفال والنساء والشيوخ وعدد كبير من الشباب دون ذنب، فضلا عن التدمير الكلي للأبنية والبنية التحية في قطاع غزة بشكل رهيب، ناهيك عن القصف والترويع للمرضى الآمنين في المستشفيات التي قُصت بصورة مخالفة للمعاهدات الدولية، والتهجير القصري المُعد له بخطط مسبقة والقائمة تطول....

نعم إن هذا المقال، يختلف اختلافا بيّنا عن المقالات السابقة التي تكتب في الصحف المحلية والدولية، إذ أهدف من خلاله بيان الفرق في التعامل بين الحاضر والماضي، ولأبين للعالم كيف كان يعيش اليهود في فلسطين وبالذات في القدس إبان الدولة العثمانية وباقي الأقطار العربية، وكيف كانت تتم معاملتهم من قبل المسؤولين في حينه، في الوقت الذي تعرضوا للتنكيل والسطوة والعذاب في عدد من الدول الغربية، وطلبهم قبل 450 عام اللجوء إلى الدول العربية وفلسطين من السلطان العثماني، قوبل بالترحيب ومكثوا وعاشوا كمواطنين دون تمييز أو تفريق أو عزل، حيث عاشوا كمواطنين مع باقي مواطني الدولة العثمانية.

فكيف كان رد الجميل لأهل فلسطين اليوم من قبل اليهود!!!

غير خاف أن تلك السجلات متوفرة بكامل محتوياتها في مؤسستين رسميتين في دولة الاحتلال، الأولى في الجامعة العبرية في القدس على أحد جبال الطور المطلة على المسجد الأقصى والبلدة القديمة، والثانية المكتبة الوطنية بجانب مقر مجلس البرلمان "الكنيست".

وجدير ببيانه، أنه خلال رحلة اطلاعي على تلك السجلات برفقة أحد الزملاء خلال مدة 4 سنوات سابقة، وجدنا حجج شرعية تفصل حياة اليهود في القدس قبل 4 قرون، تظهر بصورة جلية لا لبس أو غموض فيها حُسن المعاملة لهم، ولكل القاطنين الأجانب في الديار المقدسة، وهذا ينطبق تماما في كل الأقطار العربية، وإلا لماذا كانت هناك حارات تسمى باسمهم تدعى "حارة اليهود"؟

ما يعنيني في هذا الأمر، هو كمية وحجم المعاملات التي رصدُتها في سجلات المحكمة الشرعية خلال مدة حكم الدولة العثمانية، التي أنبأت عن الوقائع التالية:

  1. حق تملكهم للأموال المنقولة وغير المنقولة التي تم الإشارة إليها في حجج حصر الإرث.
  2. طبيعة العلاقة بينهم في المنازعات التي كانت تطرح على القضاء الشرعي، بحيث كان أحد الأطراف من اليهود يستعين بجاره المسلم أو المسيحي لإثبات حق يدعيه أو واقعة تخصه.
  3. المنازعات التي تتعلق بالتجارة بينهم وبين المسلمين وغيرهم من سكان الأقطار كانت تقوم على البينة وعلى أسس العدل والانصاف دون محاباة أو تمييز، فالأحكام تنبئ عن واقع تثبيت الحقوق لهم.
  4. خُصص لفقرائهم معونات مالية من السلطنة كنظام ضمان الدخل، مثلهم مثل سائر الفقراء من المسلمين ومن النصارى.
  5. أُعفي فقرائهم من دفع الجزية التي كانت تعطى من المقتدرين لتوفير الحماية لهم، وكنتيجة لعدم مشاركتهم في تقديم الخدمة الإنكشارية الإلزامية التي كانت مفروضة على المسلمين.
  6. مُنح عدد منهم ألقابا مثل الافندي أو المعلم وسجلت في سجلات المحكمة الشرعية.
  7. مُنحوا لقب الموسوي تيمنا بالنبي موسى عليه السلام باعتبارهم من اتباعه، وكانت تكتب في المعاملات التي يجرونها في المحكمة الشرعية بناء على رغبتهم.
  8. سُمح لهم بإنشاء الوقف الذُري والخيري في القدس الشريف كسائر العائلات المقدسية المسلمة والمسيحية.
  9. في حال وقوع اعتداء عليهم من قبل الخارجين عن القانون أو من قبل اللصوص، كان القاضي الشرعي ينزل القصاص بالمعتدي ويعوضهم بالمال.
  10. أُعطوا الاذونات لترميم الكُنس الآيلة بالسقوط أو التي هدمت بفعل عوامل الطبيعة... ومعاملات كثيرة تخص شأنهم وعاداتهم كانت محل إباحة شريطة عدم مخالفة الشرع الإسلامي كبيع المحرمات وغير ذلك...

من هذا الواقع، أتحدى أي مسؤول إسرائيلي اليوم أن يظهر حجة واحدة، تفيد مصادرة أملاك أي يهودي في أي قطر من أقطار الدول العربية إبان العهد العثماني، بسبب ديانته أو انتمائه العرقي الذي كان يعتز به، وأتحدى أي مسؤول إسرائيلي يبين لنا إن تم معاقبة أي يهودي باعتقاله إداريا أو حبسه احتياطيا لمجرد أنه يهودي، وأتحدى أي مسؤول أن يظهر لنا ببينة قاطعة أنه تم قتل اليهودي لمجرد أنه يهودي، واتحدى أي مسؤول أن يظهر لنا أنه تم قصف أو هدم بيت أي يهودي أو التنكيل به أو بأسرته لأنه مجرد يهودي، والحديث يطول ... 

إذ لا يتسع المقام إلى سرد كل ما نراه اليوم من أفعال تصدر عن الجهات الرسمية من حكومة الاحتلال، وقطعان المستوطنين الخارجين على القانون، لكن من خلال هذا المقال أوجه ندائي إلى عقلاء اليهود، لأن يقلبوا معادلة الحقد والغل بمبادرة إنسانية تعيد لهم الرشد والصحوة، وليُذكروا مسؤوليهم بأن الذي أواهم في فترة لجوئهم إلى الديار المقدسة فلسطين، إبان عهد الدولة العثمانية هم أهل فلسطين، وقبلوا أن يقاسموهم الماء والطعام في الوقت الذي نبذهم ونكل بهم الغرب.

 ألا يجدر بالمسؤولين الإسرائيليين أن ينظروا للوراء قليلا، وألا يجدر بهم أن ينقلوا هذه الحقيقة لأولادهم وأحفادهم عن كرم وسماحة أهل فلسطين، وفق ما أنبأت عنه سجلات المحكمة الشرعية.

ألا يجدر ببعض المسؤولين أن يكفوا عن التحريض بقتل العرب؟ وألا يجدر بمحاسبة كل مواطن إسرائيلي يعزز ويحرض الكراهية ضد المواطنين العرب وضد رجال الدين المسيحيين والمسلمين؟ ألا يجدر بهم أن يغيروا من مناهج تعليمهم التي كرست الحقد والكراهية لكل ما هو غير يهودي؟ ألا يجدر بهم أن يكفوا مطالبة العرب بأعمال هم أصلا يقومون بها؟

من المسؤول عن زرع هذا الحقد والبُغض الشديدين لأهل فلسطين، لا سيما وأن شعب فلسطين يعد من أكثر الشعوب العربية التي مدّت الايدي لهم، ومنحتهم الأمن والأمان والسلام في ديارهم، فكيف ينقلب الفكر وينمو التطرف بإلغاء الآخر، وكان 95% من اليهود في حالة لجوء إلى فلسطين منذ قرون سابقة، إلى أن عُزز مفهوم آخر زمن الانتداب البريطاني بمآمرة غربية للتخلص من اليهود لاسيما بعد الحرب العالمية الأولى من القرن الماضي، بإنشاء وطن بديل لهم في فلسطين!

 إن الشعارات والاقاويل والاساطير التي زرعت في أدمغة الشعب اليهودي منذ مئة عام ويزيد بقليل، نابعة عن حقد وغل وقائمة على أسس دينية عنصرية لا تليق بتشريع سماوي، فكيف يتجرؤوا ويدعوا بأن الإله الحكيم العليم يدعو لقتل الأطفال من غير ملتهم، وكيف لهذا الإله أن يميّز قوم بعينهم على سائر مخلوقات الله من البشر، وكيف لهذا الإله العظيم يعطي وصايا لقوم بعينهم حق استعباد الناس وكانوا قد استعبدوا من السابق في عهد الفراعنة، وكيف لهذا الإله أن يعطي تعليماته ليصف باقي البشر بالثعابين والحمير وبتشابيه لا تليق بخالق قدير؟

إن تجرأ اليهود على الله بأقاويل لم يصدرها ولم ينزلها على موسى عليه السلام، كفيلة بتنزيل اللعنة عليهم، فهل هم بتصديقهم لمقولة أنهم أرقى بني البشر وشعب الله المختار، يجعل لهم الحق بالتطاول على باقي البشر، أم أن ذروة التكبر بهم أوصلتهم إلى الاعتقاد بأن باقي البشر سُذج، لتصديق رواية أو أكثر كتبت في كتبهم وما أنزل الله بها من سلطان، أم أن السامية البشرية محصورة بهم دون باقي خلق الله من البشر!

غني عن البيان، أن استمرار العنف والقتل والتهجير، لن يحقق لدولة الاحتلال والشعب الإسرائيلي أي استقرار في المستقبل القريب أو البعيد، لأن طبيعة الانسان تميل إلى الانتقام، فلو عقل المسؤولين حجم وهول ما تقترفه أيديهم بحق الإنسانية، وما يقع من ألم على النفس البشرية جمعاء لما قاموا بهذا العدوان غير المتكافئ، وانما تصرفهم ينبئ بصورة جازمة أن مخططهم كان معد له، واتخذت احداث 7 تشرين الأول شماعة لتطبيق تخطيط التهجير والترويع، وإلا كيف يمكن تفسير أقوالهم جهارا نهارا وعلى محطات التلفزة التابعة لهم وعلى القنوات الدولية، أن على أهل غزة أن يختاروا الهجرة الطوعية قبل البدء بحملات حربية أوسع؟ وكيف تفسر أقوالهم بأن إعادة الاستيطان في رقعة ضيقة لا تتسع لسكان أهل غزة أصلا، يعد عنصرا حيويا بإعادة احتلال أرض اجدادهم؟ وكيف يمكن التوفيق بين العبارتين إعادة الاحتلال والاستيطان في ارض الأجداد؟ 

إن التخبط في الاعمال والتصرفات التي تقوده دولة الاحتلال، يمس بحق شعبها قبل حق الشعب الفلسطيني، مما سيقود لمزيد من إراقة الدماء، وسيزيد من حجم الكراهية والحقد بين الطرفين، ولا يمكن نسيانه بمرور جيل كامل، وإلا كيف نفسر عدم نسيان أجيال متتالية النكبة، وكيف سنقنع الفلسطيني لينسى حجم وهول الافعال المرتكبة اليوم في قطاع غزة و الضفة الغربية  والقدس، وهل الشعب الفلسطيني ملزم بالتجاوز عن تلك الاحداث في الوقت الذي تتمسك حكومة الاحتلال بحقها في تذكير العالم عن الإبادة التي ارتكبها نظام هتلر ضد اليهود وضد كل من عارض نظامه، وهل نسي الفلسطيني الإرهاب وما اقترفته العصابات الصهيونية بين الأعوام  1936-1950 وما بعد ذلك، والتي أقر بها عدد من عناصر تلك العصابات وسمح بنشرها على الملئ في  الاعلام الإسرائيلي، أم هل سيخترع اليهود مصل لتغيير من جينات العربي كي ينسى!

أرى في ظل كل هذه الكوارث الإنسانية التي نعيشها، أن الحل يكمن ببساطة متناهية ولا اجمل منه، بالعودة إلى الحق لأن الحق قديم، وأن يتصدر عقلاء اليهود لدراسة الحجج الشرعية المتوفرة بين أيديهم في المؤسستين سابقتي الذكر، التي دُرست وبُحثت من عدد منهم، مما حان الوقت لمخاطبة جمهورهم وتبيان حقيقة كيفية وصولهم للديار المقدسة فلسطين وباقي الأقطار العربية، وكيف عاشوا في سماحة الإسلام، الذي مكنهم من العيش بأمن وأمان بجوار المسلم والمسيحي جنبا إلى جنب وخصوصا في بيت المقدس واكنافه.

إن الدور الذي يستدعي ابرازه من العقلاء منهم، يجب أن يكون القوة الحقيقة بإعادة الرشد لسيطرة الحكماء على الوضع، والعيش كما كنا نعيش في العهد العثماني، وإلا فإن الانتقام سيكون سيد الموقف، ولا يغرن قيادة الاحتلال قوة جيشها في الوقت الراهن، حتى وإن هجرت بالقوة وبالترهيب جميع أهل فلسطين أو قتلتهم على بكرة أبيهم، لأن فلسطيني الشتات المقدر عددهم اليوم بحوالي 11 مليون نسمة لن يسكتوا، وسيعملون بكل السبل للعودة إلى أرضهم وأرض اجدادهم، ولن يقفوا مكتفي الأيدي.

الأمر الذي ستعود دوامة العنف من جديد، وبحكم المؤكد ستتغير موازين القوى، وبالتالي لن ينفع الندم مادام باب الامل مفتوحا ولم يوصد بعد، فلن أضع نفسي في مكان لا ارغب أن أكون فيه، ولن أقول لوكنت إسرائيليا لقمت بفعل كذا وكذا، لأن النفس البشرية السامية تأبى القيام بما قامت به حكومة الاحتلال، لكن أصدي نصحا لعقلاء اليهود بأن أسس التعايش كان قائما سابقا، ولابد من العودة إلى ما كان عليه الوضع وقت الدولة العثمانية، وهذا النهج الأمثل، لأن الولايات المتحدة وكل من التف حولها ليسوا قائمين على ديمومة الحال، ولنا في الأمم والدول السابقة عظة وعبرة لمن يعتبر، فالنمسا كانت احدى الدول العظمى التي تتنافس مع الدولة العثمانية قبل 300 عام في ترجيح موازين القوى العالمية، فهل هي باتت اليوم على ذات الحال، وهل تذكر اليوم كدولة مؤثرة على التوازن العالمي!

إن هذا الواقع، لهو واقع حقيقي وليس ضربا من ضروب الخيال التي تنشرها السينما الامريكية، أليس في اليهود رجل رشيد يوقظ ضمير كل اليهود، أفلا يتدبر ولو واحد منهم قول الله تعالى بالحق، أم أقفل على قلوبهم.