• 26 حزيران 2025
  • حارات مقدسية

 

 القدس - أخبار البلد - كتب نافذ عسيلة 

 

يشكل العتالون جزءاً أساسياً من الحياة اليومية في أسواق القدس التقليدية، حيث ينقلون البضائع في الأزقة الضيقة التي لا تصلها المركبات، مما يجعلهم ضروريين لاستمرار الحركة التجارية.

ينتمي معظمهم إلى فئات منخفضة الدخل ويعتمدون على الجهد البدني في ظروف عمل شاقة تتطلب قوة وصبراً. رغم بساطة مهنتهم، يساهمون في الحفاظ على حيوية الأسواق.

يبدأ العتال يومه باكراً، متنقلاً بين الحارات وسط تحديات الاكتظاظ وتقلبات الطقس ويجسد بصموده جانباً إنسانياً مهماً من الاقتصاد المحلي.

ينحدر عدد كبير من العتالين من الضواحي والقرى المحيطة بالمدينة، ويشكل عملهم جزءًا من منظومة الاقتصاد المحلي غير الرسمي الذي يظل حاضرًا بقوة في الأسواق التقليدية. هؤلاء الأفراد لا يؤدون فقط مهمة نقل البضائع، بل يعبر وجودهم عن استمرار التراث الشعبي والمهني الذي يربط الإنسان المقدسي بمحيطه التاريخي والاجتماعي.

رغم أن مهنتهم قد تصنف ضمن الأعمال البسيطة أو اليدوية، إلا أن العتالين يؤدون دورًا حيويًا في الحفاظ على انسياب الحركة التجارية، خاصة في المناطق التي يصعب فيها استخدام وسائل النقل الحديثة، وينظر إليهم في كثير من الأحيان كجزء من الملامح الأصيلة للمدينة، بما يمثلونه من صورة الكفاح اليومي والارتباط الوثيق بجغرافيا المكان وتقاليده.

كما يعكس عملهم طبيعة الاقتصاد المقدسي الذي يعتمد في جانب كبير منه على أنشطة غير رسمية تستند إلى العلاقات المباشرة بين الأفراد وتعزز الترابط المجتمعي في وجه التحديات السياسية والاقتصادية التي تمر بها المدينة، ومن خلال استمرارهم في هذه المهنة، يساهم العتالون في حماية هوية المدينة الثقافية والتجارية من التلاشي أو التغريب.

يعتمد العتالون على الأجر اليومي كمصدر دخل أساسي، مما يجعلهم أكثر عرضة لتقلبات السوق وظروف العمل غير المستقرة. هذا النمط من الاعتماد على الدخل اليومي يعرضهم بشكل مباشر لتأثيرات الأزمات السياسية والاقتصادية، مثل تراجع الحركة التجارية نتيجة التوترات الأمنية أو الإغلاقات التي تفرضها السلطات، خاصة في محيط البلدة القديمة والمناطق الحساسة في المدينة.

غالبًا ما تفرض الإجراءات الإسرائيلية قيودًا على دخول الفلسطينيين إلى بعض المناطق الحيوية، مما يؤدي إلى استبعاد عدد من العتالين من الوصول إلى أماكن عملهم المعتادة ويؤثر سلبًا على قدرتهم على توفير دخل ثابت، وفي ظل هذه الظروف لا يواجه العتالون فقط تحديات مهنية، بل يعيشون حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي المستمر.

إضافة إلى ذلك، يجد هؤلاء العتالين أنفسهم في مواجهة غير متكافئة مع وسائل النقل الحديثة مثل العربات الكهربائية أو المركبات الصغيرة التي باتت تدخل تدريجيًا إلى بعض أزقة المدينة، مما يهدد بدفع مهنتهم نحو التراجع أو الاختفاء، رغم أن هذه الوسائل لا تحل دائمًا محل الجهد البشري في المناطق الضيقة والمعقدة.

ورغم هذه التحديات، لا يزال العتالون يحافظون على وجودهم كجزء من الطابع التقليدي للمدينة ويواصلون أداء دورهم في دعم الاقتصاد متحدين التغييرات الحضرية والسياسية التي تحاول إعادة تشكيل هوية القدس وتهميش بعض فئاتها المجتمعية.

يتمتع العتالون بنظام داخلي غير رسمي لتنظيم العمل فيما بينهم يعتمد على أعراف مهنية متوارثة وأشكال من التعاون والتفاهم غير المكتوب يشبه إلى حد كبير الحرفة أو التقليد الشعبي، من خلال هذا النظام يتناوبون الأدوار ويتقاسمون المهام بطريقة تضمن استمرارية العمل وتوزيع الجهد بعدالة، خاصة في ظل غياب التنظيم الرسمي أو النقابي.

وتبرز بينهم مفاهيم مثل احترام الأقدمية وتوزيع المواقع حسب الخبرة أو القدرة البدنية، مما يعكس نوعًا من الانضباط الذاتي الجماعي. كما يستخدمون أدوات بسيطة وتقليدية في عملهم مثل العربات اليدوية والأحزمة القماشية أو الأحمال التي توضع على الظهر والتي لا تزال فعالة رغم بساطتها، نظرًا لطبيعة المكان الضيق وتعقيد المسارات داخل الأسواق القديمة.

يرتبط العتالون بعلاقات قوية ومتينة مع التجار وأصحاب المحلات تتجاوز مجرد العمل اليومي، لتشكل جزءا من نسيج اجتماعي واسع يقوم على الثقة والتعاون المتبادل. فهم ليسوا مجرد ناقلي بضائع، بل يعدون أحيانا جزءا من شبكات الدعم المجتمعي في الأحياء المقدسية، حيث يعرفون احتياجات السوق وظروف التجار ويشاركون في دورة الحياة اليومية للمدينة.

ومن خلال وجودهم الدائم في الأسواق وتحركاتهم المستمرة بين الأزقة والمحلات، يمتلك العتالون معرفة دقيقة بتفاصيل المكان مثل مداخل الحارات وحجم البضائع وأنماط التوزيع وحتى التحولات في نوعية الزبائن أو حركة البيع. هذه المعرفة تجعلهم شهودا على التغيرات التي تشهدها المدينة، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو حتى سياسية فهم يلاحظون الفروقات في النشاط التجاري بين المواسم ويشعرون بتأثير الإغلاقات أو التوترات الأمنية على حياة الناس من موقعهم اليومي في قلب السوق.

لهذا، فإن وجود العتالين لا يقتصر على الجانب الخدمي، بل يحمل بعدا إنسانيا واجتماعيا يعكس نبض المدينة وتاريخها المتغير.

يعكس استمرار عمل العتالين في أسواق القدس أحد مظاهر صمود الاقتصاد العربي في وجه الضغوط  المتواصلة سواء من خلال القيود على الحركة أو السياسات التي تستهدف تهجير التجار وتقليص النشاط التجاري العربي داخل المدينة. ومع ذلك، فإن العتالين، رغم دورهم الحيوي يبقون من الفئات الهشة التي قد تتعرض للاستغلال نتيجة غياب الأطر القانونية التي تضمن حقوقهم.

فهم يعملون في ظروف غالبا ما تفتقر إلى الأمان الوظيفي دون عقود رسمية  أو ضمان اجتماعي، مما يجعلهم عرضة للاستغلال من قبل بعض أصحاب العمل أو الوسطاء، خصوصا في المواسم التي يزداد فيها الطلب على خدماتهم. كما أنهم يفتقرون إلى تمثيل نقابي حقيقي يمكن أن يدافع عن مصالحهم، الأمر الذي يفاقم من هشاشتهم في سوق العمل.

ورغم كل ذلك، يواصل العتالون أداء دورهم كجزء من منظومة الصمود الشعبي في المدينة، يمثلون إحدى صور المقاومة اليومية الهادئة من خلال التمسك بالعمل والبقاء في الفضاء العام، والمساهمة في الحفاظ على الحياة الاقتصادية والاجتماعية في قلب القدس.