• 20 تشرين الثاني 2022
  • أقلام مقدسية

 

بقلم : سعادة مصطفى ارشيد

 

راودت فكرة فتح طريق مائي يربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط قدماء المصريين ، و ذلك بحفر قناة تربط البحر الأحمر بنهر النيل وصولا إلى المتوسط, و مثلت إحدى ركائز الإستراتيجية المصرية باحتكارها للتجارة القادمة من الشرق البعيد بطريق أسرع و أقل كلفه و يدعم من موقع مصر , و لكن كان على الفكرة أن تنتظر آلاف السنين , حتى غزو نابليون لمصر ، الذي قرع أجراس الحداثة و أعاد الإهتمام و الصراع من العالم الجديد إلى العالم القديم ، الذي احتاج إلى إعادة إكتشافه من خلال الإستشراق و المشاريع ، و التي كان أهمها مشروع حفر قناة السويس ، التي اعتبرت من عجائب الدنيا و اختصرت الطريق الطويل بين أوروبا و الشرق البعيد الذي كان مضطرا للإلتفاف حول رأس الرجاء الصالح .

لكن هذا المشروع (قناة السويس) الذي حل مشاكل المواصلات لأوروبا ، ما لبث أن أصبح مشكلة لمصر و الشرق , فمن جانب فشلت مصر في إدارته و رعايته و تورطت بالإستدانة التي كانت مدخلا للهيمنة عليها ، و من جانب آخر كانت حماية القناة من الشرق تتطلب إيجاد كيان غريب و معادي للمنطقة يقوم بأعمال الحراسة و يكون عنصر يمنع الوحدة و الإتصال بين سورية و مصر , فكانت البذرة الشيطانية (إسرائيل) .

تحولت قناة السويس من نعمة لمصر و الشرق لتصبح نقمة , فأدت الى احتلال مصر من قبل الإنجليز عام 1882, ثم إلى العدوان الثلاثي إثر تأميمها عام 1956 ، و كانت الشرارة التي أشعلت حرب 1967 ، و التي لا زلنا نعيش تداعياتها ، و يبدو أننا سنعاني لفترة ليست بالقصيرة ، فقد تسببت بأن يتداعى الأمن القومي للإقليم بأسره ، و أن يستبدل بأمن النظام ثم بأمن الرئيس الحاكم , و من النماذج الواضحة نرى ذلك في تنازل مصر السيسية عن جزيرتي تيران و صنيفير و مضائقهما للسعودية ، و كان إغلاق تلك المضائق هو السبب المباشر لحرب 1967، و هذه المضائق قد تحولت اليوم إلى مضائق سعودية يسري عليها قانون المضائق و أعالي البحار .

في الأعوام الماضية أخذت حوادث جنوح السفن تتكرر في القناة ، مما أدى إلى تعطيل المرور و تأخير السفن المنتظرة بطوابير , عدا عن أن السفن المتوسطة و الضخمة لم تعد تستطيع الإبحار في القناة بسبب حجمها ، مما يضطرها للدوران حول أفريقيا , فيما المرور بالقناة هو من خط واحد يخصص يوم للسفن المبحرة من البحر الأحمر للمتوسط و اليوم الآخر بالعكس .

قبل سنوات ؛ تحدث الإعلام (الإسرائيلي) عن مشروع حفر قناة موازية لقناة السويس تربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر , لكن إثر نقل السيادة المصرية على جزيرتي تيران و صنيفير إلى السيادة السعودية تسارع الحديث عن المشروع ، إلى أن أعلن قبل أيام عن الشروع بأعمال الحفر من ناحيتين ، واحدة بالقرب من إيلات و الأخرى بجوار ميناء أسدود على البحر المتوسط , و ذكرت تفاصيل العمل على أن القناة ستكون مزدوجة ، واحدة للسفن الآتية من المتوسط للبحر الأحمر و أخرى منفصله عنها بالعكس منها, و ستكون القناة أكثر عرضا و سعة من قناة السويس ، بحيث تتسع لأكبر السفن و ناقلات النفط حجما في العالم ، حيث توفر الوقت و تختصر المسافة.

يرافق المشروع بناء مدن صناعية و ترفيهيه و مناطق حرة على طول ضفتي القناة ، و فيها من أكثر أنظمة الأمن و الحماية تطورا في العالم , و تقدر الدراسات أنه من الممكن أن يتم إنجاز المشروع بعد خمس سنوات من الآن ، و سيعمل به مئات ألوف العمال و المهندسين و الفنيين من دول الجوار و من الشرق الأقصى , كما تساهم في إنجازه شركات من كوريا و أوروبا و الولايات المتحدة ، فيما تموله بنوك أمريكية بفائده متناهية بالصغر (1%).

المشروع هو في قلب الأفكار المتداولة مؤخرا من الشرق الأوسط الجديد و صفقة القرن ، التي يظن بعض من يتوهم أنها قد انتهت مع مغادرة ترامب للبيت الأبيض , و هي مرتبطة بالطموحات التي يجهر بها ولي العهد السعودي في بناءه لمدينة نيوم ، التي إن صدقت الأخبار ستجعل من دبي مدينة من الماضي .

كل هذه المشاريع تهدف إلى دمج (إسرائيل) في كل تفاصيل الإقليم ، من شبكات الطرق إلى سياسات البيئة و الأمن و الإقتصاد و الطاقه , لا بل جعلها العامل الأساسي و الحيوي الذي يقود الإقليم , فيما لن تجدي تهديدات مصر -إن هددت - بوقف المشروع, أما المسألة الفلسطينية ، فإنها ستذهب نحو مزيد من التهميش أمام المصالح المادية الجديدة الناتجة عن دمج (إسرائيل) و جعلها كيانا طبيعيا .